الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله ، وعلى آله وأصحابه ، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين .
أما بعد:
الأخلاق الإسلامية هي التي أمر الله بها في كتابه العظيم ، أو أمر بها رسوله الكريم محمد عليه الصلاة والسلام ، أو مدح أهلها وأثنى عليهم ووعدهم عليها الأجر العظيم والفوز الكبير، ومنها الأخلاق التي وعد الرب عز وجل أو الرسول صلى الله عليه وسلم من تركها وهجرها الجزاء الحسن ، فإن ترك المذموم من الخلق الممدوح ، ففعل المأمورات وترك المحظورات هو جماع الأخلاق التي أمر الله بها ودعا إليها أو أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا إليها أو مدح أهلها ،
وهذه الأخلاق بينها الله في كتابه العظم وبينها الرسول عليه الصلاة والسلام ، بينها في القرآن الكريم في غالب سور القرآن بينها آمرا بها وداعيا إليها ومثنيا على أهلها ومحذرا من أضرارها من الإشراك بالله وسائر المعاصي .
ويقول سبحانه : أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[8] ويقول عز وجل : وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[9] ويقول سبحانه : وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ[10]
فهذا الكتاب العظيم فيه بيان الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة ، وبيان الأخلاق الذميمة والأعمال السيئة ليحذرها المؤمن ويحذرها إخوانه المسلمين ، وليحذر أعمال الكافرين والمنافقين والفجار والمجرمين ، لأن الله سبحانه بينها ليحذرها عباده المؤمنون ، كما بين الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة ليأخذ بها المؤمنون وليستقيموا عليها ،
الموضوع:
الاخلاق في الاسلام :-
معنى الأخلاق لغة واصطلاحًا :
معنى الأخلاق لغة:
الأخلاق جمع خلق، والخُلُق -بضمِّ اللام وسكونها- هو الدِّين والطبع والسجية والمروءة، وحقيقته أن صورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخَلْق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها . وقال الرَّاغب: (والخَلْقُ والخُلْقُ في الأصل واحد... لكن خص الخَلْق بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخُلْق بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة) .
معنى الأخلاق اصطلاحًا:
عرَّف الجرجاني الخلق بأنَّه: (عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر ورويَّة، فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئة خلقًا حسنًا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقًا سيئًا) .
وعرفه ابن مسكويه بقوله: (الخلق: حال للنفس، داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا رويَّة، وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون طبيعيًّا من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو غضب، ويهيج من أقل سبب، وكالإنسان الذي يجبن من أيسر شيء، أو كالذي يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه، أو يرتاع من خبر يسمعه، وكالذي يضحك ضحكًا مفرطًا من أدنى شيء يعجبه، وكالذي يغتمُّ ويحزن من أيسر شيء يناله. ومنها ما يكون مستفادًا بالعادة والتدرب، وربما كان مبدؤه بالرويَّة والفكر، ثم يستمر أولًا فأولًا، حتى يصير ملكة وخلقًا) . وقد عرف بعض الباحثين الأخلاق في نظر الإسلام بأنها عبارة عن (مجموعة المبادئ والقواعد المنظمة للسلوك الإنساني، التي يحددها الوحي، لتنظيم حياة الإنسان، وتحديد علاقته بغيره على نحو يحقق الغاية من وجوده في هذا العالم على أكمل وجه)
أقسام الأخلاق باعتبارها فطرية أو مكتسبة :
الأخلاق تنقسم بهذا الاعتبار إلى قسمين: أخلاق فطرية، وأخلاق مكتسبة.
فبعض أخلاق الناس أخلاق فطرية، تظهر فيهم منذ بداية نشأتهم، والبعض الآخر من أخلاقهم مكتسب من البيئة، ومن تتابع الخبرات والتجارب وكثرتها ونحو ذلك. والأخلاق الفطرية قابلة للتنمية والتوجيه والتعديل؛ لأنَّ وجود الأخلاق الفطرية يدل على وجود الاستعداد الفطري لتنميتها بالتدريب والتعليم وتكرر الخبرات، والاستعداد الفطري لتقويمها وتعديلها وتهذيبها.
(إننا نجد مثلًا الخوف الفطري عند بعض الناس أشدَّ منه عند فريق آخر، ونجد الطمع الفطري عند بعض الناس أشد منه عند فريق آخر، ونجد فريقًا من الناس مفطورًا على سرعة الغضب، بينما نجد فريقًا آخر مفطورًا على نسبة ما من الحلم والأناة وبطء الغضب، ونجد حبَّ التملك الفطري عند بعض الناس أقوى منه عند بعض آخر.
هذه المتفاوتات نلاحظها حتى في الأطفال الصغار الذين لم تؤثر البيئة في تكوينهم النفسي بعد.
وقد جاء في أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ما يثبت هذا التفاوت الفطري في الطباع الخلقية وغيرها:
منها: قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي: ((إنَّ بني آدم خلقوا على طبقات شتى، ألا وإن منهم البطيء الغضب سريع الفيء ، والسريع الغضب سريع الفيء، والبطيء الغضب بطيء الفيء، فتلك بتلك، ألا وإن منهم بطيء الفيء سريع الغضب، ألا وخيرهم بطيء الغضب سريع الفيء، وشرهم سريع الغضب بطيء الفيء)) .
ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) .
ومنها: ما رواه أحمد في مسنده والترمذي وأبو داود بإسناد صحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن، والخبيث والطيب)) .
وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الناس معادن)) دليل على فروق الهبات الفطرية الخلقية، وفيه يثبت الرسول صلى الله عليه وسلم أن خيار الناس في التكوين الفطري هم أكرمهم خلقًا، وهذا التكوين الخلقي يرافق الإنسان ويصاحبه في كل أحواله. فإذا نظرنا إلى مجموعة من الناس غير متعلمة ولا مهذبة، أو في وسط مجتمع جاهلي، فإنَّه لابد أن يمتاز في نظرنا من بينهم أحاسنهم أخلاقًا، فهم خيرهم معدنًا، وأفضلهم سلوكًا اجتماعيًا، ثم إذا نقلنا هذه المجموعة كلها فعلمناها وهذبناها وأنقذناها من جاهليتها، ثم نظرنا إليها بعد ذلك نظرة عامَّة لنرى من هو أفضلهم، فلابد أن يمتاز في نظرنا من بينهم من كان قد امتاز سابقًا، لأنَّ العلم والتهذيب والإيمان تمدُّ من كان ذا خلق حسن في أصل فطرته، فتزيده حسن خلق واستقامة سلوك وتزيده فضلًا، ثم إذا جاء الفقه في الدين كان ارتقاء هؤلاء فيما فضلوا به ارتقاء يجعلهم هم السابقين على من سواهم لا محالة، وبذلك تكون فروق النسبة لصالحهم فضلًا وكرمًا.
ومنها: ما رواه أحمد والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم))
أقسام الأخلاق باعتبار علاقاتها
تنقسم الأخلاق باعتبار علاقاتها إلى أربعة أقسام:
(القسم الأول: ما يتعلق بوجوه الصلة القائمة بين الإنسان وخالقه... والفضيلة الخلقية في حدود هذا القسم تفرض على الإنسان أنواعًا كثيرة من السلوك الأخلاقي: منها الإيمان به؛ لأنَّه حق، ومنها الاعتراف له بكمال الصفات، والأفعال، ومنها تصديقه فيما يخبرنا به؛ لأنَّ من حق الصادق تصديقه، ومنها التسليم التام لما يحكم علينا به؛ لأنَّه هو صاحب الحق في أن يحكم علينا بما يشاء.
فكل هذه الأنواع من السلوك أمور تدعو إليها الفضيلة الخلقية.
أما دواعي الكفر بالخالق بعد وضوح الأدلة على وجوده فهي حتمًا دواع تستند إلى مجموعة من رذائل الأخلاق، منها الكبر، ومنها ابتغاء الخروج على طاعة من تجب طاعته، استجابة لأهواء الأنفس وشهواتها، ومنها نكران الجميل وجحود الحق...
القسم الثاني: ما يتعلق بوجوه الصلة بين الإنسان وبين الناس الآخرين.
وصور السلوك الأخلاقي الحميد في حدود هذا القسم معروفة وظاهرة: منها الصدق، والأمانة، والعفة، والعدل، والإحسان، والعفو، وحسن المعاشرة، وأداء الواجب، والاعتراف لذي الحق بحقه، والاعتراف لذي المزية بمزيته والمواساة والمعونة، والجود، وهكذا إلى آخر جدول فضائل الأخلاق التي يتعدى نفعها إلى الآخرين من الناس.
أما صور السلوك الأخلاقي الذميم في حدود هذا القسم فهي أيضًا معروفة وظاهرة: منها الكذب، والخيانة، والظلم، والعدوان، والشح، وسوء المعاشرة، وعدم أداء الواجب، ونكران الجميل، وعدم الاعتراف لذي الحق بحقِّه، وهكذا إلى آخر جدول رذائل الأخلاق التي يتعدى ضررها إلى الآخرين من الناس.
القسم الثالث: ما يتعلق بوجوه الصلة بين الإنسان ونفسه.
وصور السلوك الأخلاقي الحميد في حدود هذا القسم كثيرة: منها الصبر على المصائب، ومنها الأناة في الأمور، ومنها النظام والإتقان في العمل، ومنها عدم استعجال الأمور قبل أوانها، وكلُّ ذلك يدخل في حسن إدارة الإنسان لنفسه، وحكمته في تصريف الأمور المتعلقة بذاته.
وصور السلوك الأخلاقي الذميم في حدود هذا القسم تأتي على نقيض صور السلوك الأخلاقي الحميد.
القسم الرابع: ما يتعلق بوجوه الصلة بين الإنسان والأحياء غير العاقلة.
ويكفي أن تتصور من السلوك الأخلاقي الحميد في حدود هذا القسم، الرحمة بها، والرفق في معاملتها، وتأدية حقوقها الواجبة. أما الظلم والقسوة وحرمانها من حقوقها؛ فهي من قبائح الأخلاق، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر: ((عُذِّبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض )) ...
ولابد من ملاحظة أنَّ كثيرًا من الأخلاق لها عدد من الارتباطات والتعلقات، ولذلك فقد تدخل في عدد من هذه الأقسام في وقت واحد، إذ قد تكون لفائدة الإنسان نفسه، وتكون في نفس الوقت لفائدة الآخرين، وتكون مع ذلك محققة مرضاة الله تعالى)
خصائص الأخلاق الإسلامية
أولًا: الأخلاق الإسلامية ربانية المصدر
الأخلاق الإسلامية مصدرها كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا مدخل فيها للآراء البشرية، أو النظم الوضعية، أو الأفكار الفلسفية.
ولذا اتسمت الأخلاق الإسلامية بسمة الخلود والصدق والصحة.
ثانيًا: الشمول والتكامل
من خصائص الأخلاق الإسلامية: أنها شاملة، ومتكاملة، وهي خاصية منبثقة من الخاصية الأولى، وهي الربانية، وذلك لأنها تراعي الإنسان، والمجتمع الذي يعيش فيه، وأهداف حياته طبقا للتصور الإسلامي، تحدد أهداف الحياة وغايتها وما وراءها، وتشمل كافة مناشط الإنسان وتوجهاته، وتستوعب حياته كلها من جميع جوانبها، ثم هي أيضًا لا تقف عند حدِّ الحياة الدنيا.
ثالثًا: الأخلاق الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان
لما كانت الأخلاق الإسلامية ربانية المصدر، كانت صالحة لجميع الناس في كلِّ زمان، وفي أيِّ مكان، نظرًا لما تتميز به من خصائص، فلا يطرأ عليها أي تغيير أو تبديل بسبب تغير الظروف والأزمان؛ لأنها ليست نتاجًا بشريًّا، بل هي وحي من الله تعالى لنبيه.
رابعًا: الإقناع العقلي والوجداني
تشريعات الإسلام توافق العقول الصحيحة، وتتوائم مع الفطر السليمة، وتحصل القناعة الكاملة والانسجام التام مع ما أتت به الشريعة الإسلامية من نظم أخلاقية.
فالأخلاق الإسلامية بها يقنع العقل السليم، ويرضى بها القلب، فيجد الإنسان ارتياحًا واطمئنانًا تجاه الحسن من الأخلاق، ويجد نفرة وقلقًا تجاه السيئ من الأخلاق.
خامسًا: المسؤولية
الأخلاق الإسلامية تجعل الإنسان مسؤولًا عما يصدر منه في كلِّ جوانب الحياة، سواء كانت هذه المسؤولية مسؤولية شخصية، أم مسؤولية جماعية، ولا تجعله اتكاليًّا لا يأبه بما يدور حوله من أشياء، وهذه خاصية من خصائص أخلاقنا انفردت بها الشريعة الغراء.
ونعني بالمسؤولية الشخصية: أن الإنسان مسؤول عما يصدر منه عن نفسه إن كان خيرًا فخير، وإن كان شرًّا فشر، وفي هذا الصدد يقول الله تعالى: { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [الطور: 21].
ويقول تعالى: { وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ } [النساء: 111].
ويقول تعالى: { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [الإسراء: 36].
فهذه الآيات وغيرها تبين لنا مدى المسؤولية التي تقع على عاتق الإنسان عما يصدره منه عنه نفسه. ويقول صلى الله عليه وسلم: ((... وإنَّ العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم)) ، يقول ابن حجر في شرح الحديث: (لا يلقي لها بالًا: أي: لا يتأمل بخاطره، ولا يتفكر في عاقبتها، ولا يظنُّ أنَّها تؤثر شيئًا) ، فقبل أن تخرج الكلمة من فيك، أعط نفسك فرصة للتفكير، هل ما ستقوله يرضي الله أم يغضبه؟ هل تكون عاقبته خيرًا أم شرًّا؟ وطالما لم تخرج فأنت مالكها، فإذا خرجت كنت أسيرها، وإذا كان هذا في الكلام ففي سائر التصرفات من باب أولى.
ونعني بالمسؤولية العامة (الجماعية): تلك المسؤولية التي تراعي الصالح العام للناس، فلا يكون الرجل إمعة متكاسلًا... أو سلبيًّا بل عليه أن يأمر بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان)) .
سادسًا: العبرة بالظاهر والباطن من الأعمال معًا
أخلاقنا الإسلامية لا تكتفي بالظاهر من الأعمال، ولا تحكم عليه بالخير والشر بمقتضى الظاهر فقط، بل يمتدُّ الحكم ليشمل النوايا والمقاصد، وهي أمور باطنية، فالعبرة إذًا بالنية، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) ، ... والنية هي مدار التكليف، وعلى ذلك فالإسلام يراعي نية الإنسان في الحكم على عمله الظاهر.
سابعًا: الرقابة الدينية
الرقابة: تعني مراقبة المسلم لجانب مولاه سبحانه في جميع أمور الحياة.
وعلى هذا فإنَّ الرقابة في أخلاقنا الإسلامية لها مدلولها المستقلُّ والمختلف عن الرقابة في مصادر الأخلاق الأخرى، حيث تكون رقابة خارجية من الغير تتمثل في رقابة السلطة، والأفراد.
أما الرقابة في الإسلام فهي رقابة ذاتية في المقام الأول، وهي رقابة نابعة من التربية الإسلامية الصحيحة، ومن إيقاظ الضمير، فإذا كان المسلم يعلم أنَّ الله معه، وأنَّه مطلع على حركاته وسكناته، فإنَّه يكون رقيبًا على نفسه، ولا يحتاج إلى رقابة الغير عليه، يقول تعالى: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [الحديد: 4]، ويقول سبحانه: { يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } [طه: 7]، ويقول عز وجل: { إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [النساء: 1]، فإذا قرأ المسلم هذه الآيات، وعرف معناها فإنَّه حينئذ يتيقن أنَّه إذا تمكن من الإفلات من رقابة السلطة، فإنَّه لن يتمكن من الإفلات من رقابة الله، وهذا في حدِّ ذاته أكبر ضمان لعدم الانحراف والانسياق إلى الأخلاق المذمومة.
ثامنًا: الأخلاق الإسلامية ترتبط بالجزاء الدنيوي والأخروي
أخلاق الإسلام ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالجزاء، سواء في الدنيا أو الآخرة، لذا وُجد الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب.
فالأخيار من الناس: جزاؤهم عظيم في الدنيا والآخرة: ومن ذلك ما أعده الله لهم في الآخرة كما في قوله تعالى: { وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 72].
وكذلك ما وعدهم الله به في الدنيا من الجزاء العاجل، قال تعالى: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [الطلاق 2-3]، وقال أيضًا: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10].
وأما الأشرار من الناس فقد توعدهم الله عزَّ وجلَّ كما في قوله تعالى: { فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } [الحج: 19-22].
وأما جزاؤهم في الدنيا فمثاله قوله تعالى: { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [النحل: 112].
مصادر الأخلاق الإسلامية
يمكن أن نجمل مصادر الأخلاق الإسلامية في مصدرين رئيسين، هما أعظم ما تُستمدُّ منه هذه الأخلاق؛ كتاب الله عزَّ وجلَّ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الصحيحة:
فالقرآن الكريم هو المصدر الأول للأخلاق، والآيات التي تضمنَّت الدعوة إلى مكارم الأخلاق والنهي عن مساوئها كثيرة، منها قوله تعالى: { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [النحل: 90].
وقوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 33] إلى غير ذلك.
ويدلنا على أصالة هذا المصدر أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم الذي وصفه الله عز وجل بالخلق العظيم تصفه عائشة رضي الله عنها بقولها: ((كان خلق الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن)) . ومعنى ذلك كما يقول ابن كثير: (أنَّه قد ألزم نفسه ألا يفعل إلا ما أمره به القرآن، ولا يترك إلا ما نهاه عنه القرآن، فصار امتثال أمر ربه خلقًا له وسجية، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين) .د
والمصدر الثاني السنة النبوية: والمراد من السنة ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال، وتقريرات، وتعتبر السنة النبوية الصحيحة هي المصدر الثاني للأخلاق، يقول الله تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ } [الحشر: 7]، وقال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } [الأحزاب: 21]، وقال سبحانه: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [النساء: 59]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)) . قال إبراهيم الحربي: (ينبغي للرجل إذا سمع شيئًا من آداب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتمسك به) . (ولذا حرص الصحابة رضوان الله عليهم واهتموا اهتمامًا كبيرًا، وتخلقوا بالأخلاق الحسنة مستندين في ذلك إلى ما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهم قدوتنا وسلفنا الصالح في الأخلاق) .
أهميَّة الأخلاق
أولًا: الأخلاق الحسنة امتثال لأمر الله ورسوله
تضافرت النصوص من كتاب الله عز وجل على الأمر بالتخلق بالأخلاق الحسنة، ونصت على الكثير منها، فمن ذلك قوله تعالى: { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ } [النحل: 90].
وقوله تعالى: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } [الأعراف: 199].
وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات: 6].
وكذلك نهت عن الأخلاق المذمومة ومن ذلك:
قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } [الحجرات: 11-12].
ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتثل أمر الله تعالى في كلِّ شأنه قولًا وعملًا، ويأتمر بكلِّ أخلاق حسنة ورد الأمر بها في القرآن، وينتهي عن كلِّ أخلاق سيئة ورد النهي عنها في القرآن؛ لذا كان خلقه القرآن. وأيضًا فإن الالتزام بالأخلاق الحسنة امتثال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فهو الذي يأمر بها ويحض عليها، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) .
ثانيًا: الأخلاق الحسنة أحد مقومات شخصية المسلم
فــ(الإنسان جسد وروح، ظاهر وباطن، والأخلاق الإسلامية تمثل صورة الإنسان الباطنة، والتي محلُّها القلب، وهذه الصورة الباطنة هي قوام شخصية الإنسان المسلم، فالإنسان لا يقاس بطوله وعرضه، أو لونه وجماله، أو فقره وغناه، وإنما بأخلاقه وأعماله المعبرة عن هذه الأخلاق، يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13]، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) ويقول صلى الله عليه وسلم أيضًا: ((لينتهينَّ أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم، أو ليكوننَّ أهونَ على الله من الجُعَل الذي يُدَهْدِه الخِراء بأنفه، إن الله أذهب عنكم عُبِّـيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب)) ) .
ثالثًا: الارتباط الوثيق بين الأخلاق والدين الإسلامي عقيدة وشريعة
إن ارتباط الأخلاق بالعقيدة وثيق جدًّا، لذا فكثيرًا ما يربط الله عز وجل بين الإيمان والعمل الصالح، الذي تعدُّ الأخلاق الحسنة أحد أركانه، فالعقيدة دون خُلُق، شجرة لا ظل لها ولا ثمرة، أما عن ارتباط الأخلاق بالشريعة، فإن الشريعة منها عبادات، ومنها معاملات، والعبادات تثمر الأخلاق الحسنة ولا بد، إذا ما أقامها المسلم على الوجه الأكمل، لذا قال تعالى: { وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } [العنكبوت: 45]، وأما صلة الأخلاق بالمعاملات، فإنَّ المعاملات كلَّها قائمة على الأخلاق الحسنة في أقوال المسلم وأفعاله، والمتأمل لتعاليم الإسلام يرى هذا واضحا جليًّا.
رابعًا: آثارها في سلوك الفرد والمجتمع
(تظهر أهمية الأخلاقية الإسلامية لما لها من أثر في سلوك الفرد، وفي سلوك المجتمع.
أما أثرها في سلوك الفرد فلما تزرعه في نفس صاحبها من الرحمة، والصدق، والعدل، والأمانة، والحياء، والعفة، والتعاون، والتكافل، والإخلاص، والتواضع.. وغير ذلك من القيم والأخلاق السامية، فالأخلاق بالنسبة للفرد هي أساس الفلاح والنجاح، يقول تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [الشمس: 9-10]، ويقول سبحانه: { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } [الأعلى: 14-15]، والتزكية في مدلولها ومعناها: تعني: تهذيب النفس باطنًا وظاهرًا، في حركاته وسكناته .
وأما أثرها في سلوك المجتمع كلِّه، فالأخلاق هي الأساس لبناء المجتمعات الإنسانية إسلامية كانت أو غير إسلامية، يقرر ذلك قوله تعالى: { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } [العصر: 1-3].
فالعمل الصالح المدعم بالتواصي بالحقِّ، والتواصي بالصبر في مواجهة المغريات والتحديات من شأنه أن يبني مجتمعًا محصنًا لا تنال منه عوامل التردي والانحطاط، وليس ابتلاء الأمم والحضارات كامنًا في ضعف إمكاناتها المادية أو منجزاتها العلميَّة، إنما في قيمتها الخلقية التي تسودها وتتحلى بها) .
خامسًا: مكارم الأخلاق ضرورة اجتماعية
(إن أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية لا يستطيع أفراده أن يعيشوا متفاهمين متعاونين سعداء ما لم تربط بينهم روابط متينة من الأخلاق الكريمة.
ولو فرضنا احتمالًا أنه قام مجتمع من المجتمعات على أساس تبادل المنافع المادية فقط، من غير أن يكون وراء ذلك غرض أسمى؛ فإنَّه لابد لسلامة هذا المجتمع من خلقي الثقة والأمانة على أقل التقادير.
فمكارم الأخلاق ضرورة اجتماعية، لا يستغني عنها مجتمع من المجتمعات، ومتى فقدت الأخلاق التي هي الوسيط الذي لابد منه لانسجام الإنسان مع أخيه الإنسان، تفكك أفراد المجتمع، وتصارعوا، وتناهبوا مصالحهم، ثم أدى بهم ذلك إلى الانهيار، ثم إلى الدمار.
من الممكن أن تتخيل مجتمعًا من المجتمعات انعدمت فيه مكارم الأخلاق كيف يكون هذا المجتمع؟!
كيف تكون الثقة بالعلوم، والمعارف، والأخبار، وضمان الحقوق لولا فضيلة الصدق؟!
كيف يكون التعايش بين الناس في أمن واستقرار، وكيف يكون التعاون بينهم في العمل ضمن بيئة مشتركة، لولا فضيلة الأمانة؟
كيف تكون أمة قادرة على إنشاء حضارة مثلى لولا فضائل التآخي، والتعاون، والمحبة، والإيثار؟
كيف تكون جماعة مؤهلة لبناء مجد عظيم لولا فضيلة الشَّجَاعَة في ردِّ عدوان المعتدين وظلم الظالمين، ولولا فضائل العدل والرحمة والإحسان والدفع بالتي هي أحسن؟!
كيف يكون الإنسان مؤهلًا لارتقاء مراتب الكمال الإنساني إذا كانت أنانيته مسيطرة عليه، صارفة له عن كلِّ عطاء وتضحية وإيثار؟
لقد دلَّت التجربات الإنسانية، والأحداث التاريخية، أن ارتقاء القوى المعنوية للأمم والشعوب ملازم لارتقائها في سلم الأخلاق الفاضلة، ومتناسب معه، وأنَّ انهيار القوى المعنوية للأم والشعوب ملازم لانهيار أخلاقها، ومتناسب معه، فبين القوى المعنوية والأخلاق تناسب طردي دائمًا، صاعدين وهابطين.
وذلك لأنَّ الأخلاق الفاضلة في أفراد الأمم والشعوب تمثل المعاقد الثابتة التي تعقد بها الروابط الاجتماعية، ومتى انعدمت هذه المعاقد أو انكسرت في الأفراد لم تجد الروابط الاجتماعية مكانًا تنعقد عليه، ومتى فقدت الروابط الاجتماعية صارت الملايين في الأمة المنحلة عن بعضها مزودة بقوة الأفراد فقط، لا بقوة الجماعة، بل ربما كانت القوى المبعثرة فيها بأسًا فيما بينها، مضافًا إلى قوة عدوها.
وإذا كانت الأخلاق في أفراد الأمم تمثل معاقد الترابط فيما بينهم، فإن النظم الإسلامية الاجتماعية تمثل الأربطة التي تشدُّ المعاقد إلى المعاقد، فتكون الكتلة البشرية المتماسكة القوية، التي لا تهون ولا تستخذي) .
سادسًا: أهميَّة الأخلاق في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ
(الذي يظنُّ أنَّ الناس يدخلون في الدين فقط؛ لأنهم يقتنعون عقليًّا فقط، لا شك أنه مخطئ... وكثير من الناس يدخلون في الدين؛ لأنهم يرون أنَّ أهل هذا الدين على خلق، وأن الدعاة إلى الله عندهم أخلاق، والشواهد في هذا الباب كثيرة... فالاستقامة على الأخلاق لها أثر كبير، ونفعها بليغ، ولا أدلَّ على ذلك مما جاء في السيرة النبوية من أنَّ أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم كانت محل إعجاب المشركين قبل البعثة، حتى شهدوا له بالصدق والأمانة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لما نزلت هذه الآية: { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبًا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)) .
وقد بدأ انعكاس الصور السلوكية الرائعة في تأثيرها في انتشار هذا الدين في بعض المناطق التي لم يصلها الفتح؛ إذ دخل في هذا الدين الحنيف شعوب بكاملها لما رأوا القدوة الحسنة مرتسمة خلقًا حميدًا في أشخاص مسلمين صالحين، مارسوا سلوكهم الرشيد، فكانوا كحامل مصباح ينير طريقه لنفسه بمصباحه، فيرى الآخرون ذلك النور ويرون به، وليس أجمل منه في قلب الظلام، وبناء على ذلك الإقبال سريعًا دون دافع سوى القدوة الحسنة، فَرُبَّ صفة واحدة مما يأمر بها الدين تترجم حية على يد مسلم صالح يكون لها أثر لا يمكن مقارنته بنتائج الوعظ المباشر؛ لأن النفوس قد تنفر من الكلام الذي تتصور أنَّ للناطق به مصلحة، وأحسن من تلك الصفات التمسك بالأخلاق الحميدة التي هي أول ما يرى من الإنسان المسلم، ومن خلالها يحكم له أو عليه...) .
سابعًا: أهمية الأخلاق في إضفاء السعادة على الأفراد والمجتمعات
لا شك أنَّ السعادة كلَّ السعادة في الإيمان بالله والعمل الصالح، وعلى قدر امتثال المسلم لتعاليم الإسلام في سلوكه وأخلاقه تكون سعادته، فـ(التزام قواعد الأخلاق الإسلامية كفيل بتحقيق أكبر نسبة من... السعادة للفرد الإنساني، وللجماعة الإنسانية، ثم لسائر الشركاء في الحياة على هذه الأرض وذلك بطريقة بارعة جدًّا؛ يتم فيها التوفيق بالنسب المستطاعة بين حاجات ومطالب الفرد من جهة، وحاجات ومطالب الجماعة من جهة أخرى، ويتم فيها إعطاء كل ذي حق حقه، أو قسطًا من حقه وفق نسبة عادلة اقتضاها التوزيع العام المحفوف بالحق والعدل.
فمن الواضح في هذا العنصر أن أسس الأخلاق الإسلامية لم تهمل ابتغاء سعادة الفرد الذي يمارس فضائل الأخلاق ويجتنب رذائلها، ولم تهمل ابتغاء سعادة الجماعة التي تتعامل فيما بينها بفضائل الأخلاق مبتعدة عن رذائلها.
وروعة الأخلاق التي أرشد إليها الإسلام، تظهر فيما اشتملت عليه من التوفيق العجيب بين المطالب المختلفة للفرد من جهة، وللجماعة من جهة أخرى، وتظهر فيما تحققه من وحدات السعادة الجزئية في ظروف الحياة الدنيا، بقدر ما تسمح به سنن الكون الدائمة الثابتة، التي تشمل جميع العاملين، مؤمنين بالله أو كافرين، أخلصوا له النية أو لم يخلصوا
اكتساب الأخلاق
(لدينا حقيقة ثابتة لابد من ملاحظتها في مجال كلِّ تكليف رباني: هي أنَّ الله تبارك وتعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فمسؤولية الإنسان تنحصر في نطاق ما يدخل في وسعه، وما يستطيعه من عمل، أما ما هو خارج عن وسع الإنسان واستطاعته، فليس عليه مسؤولية نحوه، يضاف إلى ذلك أنَّ نسبة المسؤولية تتناسب طردًا وعكسًا مع مقدار الاستطاعة...
فما كان من الطباع الفطرية قابلًا للتعديل والتبديل، ولو في حدود نسب جزئية، لدخوله تحت سلطان إدارة الإنسان وقدرته، كان خاضعًا للمسؤولية، وداخلًا في إطارها تجاه التكاليف الربانية، وما لم يكن قابلًا للتعديل والتبديل، لخروجه عن سلطان إرادة الإنسان وقدرته، فهو غير داخل في إطار المسؤولية تجاه التكاليف الربانية.
وبناء على ذلك فإننا نقول وفق المفاهيم الدينية: لو لم يكن لدى كلِّ إنسان عاقل قدرة على اكتساب حدٍّ ما من الفضائل الأخلاقية؛ لما كلفه الله ذلك.
وليس أمر قدرة الإنسان على اكتساب حدٍّ ما من كلِّ فضيلة خلقية بعيدًا عن التصور والفهم، ولكنه بحاجة إلى مقدار مناسب من التأمل والتفكير.
أليست استعدادات الناس لأنواع العلوم المختلفة متفاوتة، فبعضهم أقدر على تعلم الفنون الجميلة من بعض، وبعضهم أقدر على تعلم العلوم العقلية من بعض، وبعضهم أقدر على حفظ التواريخ والحوادث أو حفظ النصوص من بعض؟
إنه... ما من إنسان عاقل إلا ولديه قدرة على اكتساب مقدار ما من فضائل الأخلاق، وفي حدود هذا المقدار الذي يستطيعه يكون تكليفه، وتكون مسؤوليته، ثم في حدوده تكون محاسبته ومجازاته.
إنَّ أسرع الناس استجابة لانفعال الغضب، يستطيع بوسائل التربية أن يكتسب مقدارًا ما من خلق الحلم، ومتى صمم بإرادته أن يكتسب ذلك فإنه يستطيعه، لذلك فهو مسؤول عن اكتساب ما يستطيعه منه، فإذا هو أهمل تربية نفسه، وتركها من غير تهذيب تنمو نمو أشواك الغاب، فإنَّه سيحاسب على إهماله، وسيجني ثمرات تقصيره.
وإن أشد الناس بخلًا وأنانية وحبًّا للتملك، يستطيع بوسائل التربية أن يكتسب مقدارًا ما من خلق حب العطاء، ومتى صمم بإرادته أن يكتسب ذلك فإنه يستطيعه، لذلك فهو مسؤول عن اكتساب القدر الواجب شرعًا منه، فإذا هو أهمل تربية نفسه، وتركها من غير تهذيب فإنَّه سيحاسب على إهماله، وسيجني ثمرات تقصيره.
والمفطور على نسبة كبيرة من الجبن، يستطيع أن يكتسب بالتربية المقترنة بالإرادة والتصميم مقدارًا ما من خلق الشَّجاعَة، قد لا يبلغ به مبلغ المفطور على نسبة عالية من الشَّجاعَة، ولكنه مقدار يكفيه لتحقيق ما يجب عليه فيه أن يكون شجاعًا، وضمن الحدود التي هو مسؤول فيها.
وأشد الناس أنانية في تكوينه الفطري، يستطيع أن يكتسب بالتربية المقترنة بالإرادة والتصميم مقدارًا ما من الغيرية والإيثار، قد لا يبلغ فيه مبلغ المفطور على محبة الآخرين، والرغبة بأن يؤثرهم على نفسه، ولكنه مقدار يكفيه لتأدية الحقوق الواجبة عليه تجاه الآخرين.
وهكذا نستطيع أن نقول: إن أية فضيلة خلقية، باستطاعة أي إنسان عاقل، أن يكتسب منها بالتربية المقترنة بالإرادة والتصميم، المقدار الذي يكفيه لتأدية واجب السلوك الأخلاقي.
والناس من بعد ذلك يتفاوتون بمدى سبقهم وارتقائهم في سلم الفضائل.
وتفاوت الاستعدادات والطبائع، لا ينافي وجود استعداد عام صالح لاكتساب مقدار ما من أي فرع من فروع الاختصاص، سواء أكان ذلك من قبيل العلوم، أو من قبيل الفنون، أو من قبيل المهارات، أو من قبيل الأخلاق.
وفي حدود هذا الاستعداد العام، وردت التكاليف الشرعية الربانية العامة، ثم ترتقي من بعده مسؤوليات الأفراد بحسب ما وهب الله كلًّا منهم من فطر، وبحسب ما وهب كلا منهم من استعدادات خاصة، زائدة على نسبة الاستعداد العام.
ولو أنَّ بعض الناس كان محرومًا من أدنى حدود الاستعداد العام الذي هو مناط التكليف، فإنَّ التكليف لا يتوجه إليه أصلًا، ومن سلب منه هذا الاستعداد بسبب ما ارتفع عنه التكليف، ضرورة اقتران التكليف بالاستطاعة، كما أوضحت ذلك نصوص الشريعة الإسلامية.
ووفق هذا الأساس، جاءت التكاليف الشرعية بالتزام فضائل الأخلاق واجتناب رذائلها.
ووفق هذا الأساس، وضع الإسلام الخطط التربوية التي تنفع في التربية على الأخلاق الفاضلة، فالاستعداد لذلك موجود في الواقع الإنساني، وإن اختلفت نسبة هذا الاستعداد من شخص إلى آخر. وفي الإصلاح التربوي قد يقبل بعض الناس بعض فضائل الأخلاق بسهولة، ولا يقبل بعضها الآخر إلا بصعوبة ومعالجة طويلة المدى، وقد تقل نسبة استجابته
وسائل اكتساب الأخلاق
1
- تصحيح العقيدة.
2- العبادات.
3- الارتباط بالقرآن الكريم.
4- التدريب العملي والرياضة النفسية.
5- التفكر في الآثار المترتبة على حسن الخلق.
6- النظر في عواقب سوء الخلق.
7- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي بالحق.
8- علو الهمة.
9- الصبر.
10- الموعظة والنصح.
11- التواصي بحسن الخلق.
12- أن يتخذ الناس مرآة لنفسه.
13- القدوة الحسنة.
14- مصاحبة الأخيار، وأهل الأخلاق الفاضلة .
15- الغمس في البيئات الصالحة.
16- الاختلاف إلى أهل الحلم والفضل وذوي المروءات.
17- الضغط الاجتماعي من قبل المجتمع الإسلامي.
18- إدامة النظر في السيرة النبوية.
19- النظر في سير الصحابة الكرام، وأهل الفضل والحلم.
20- سلطان الدولة الإسلامية.
موقف أعداء المسلمين من الأخلاق الإسلامية
(أدرك أعداء المسلمين الحقائق عن مكارم الأخلاق، فعملوا على إفساد أخلاق المسلمين بكلِّ ما أوتوا من مكر ودهاء، وبكلِّ ما أوتوا من وسائل مادية وشياطين إغواء، ليبعثروا قواهم المتماسكة بالأخلاق الإسلامية العظيمة، وليفتتوا وحدتهم التي كانت مثل الجبل الراسخ الصلب قوة، ومثل الجنة الوارفة المثمرة خضرة وبهاء وثمرًا وماء.
إن أعداء المسلمين قد عرفوا أن الأخلاق الإسلامية في أفراد المسلمين تمثل معاقد القوة، فجندوا لغزو هذه المعاقد وكسرها جيوش الفساد والفتنة.
ولقد كان غزوهم للأخلاق الإسلامية من عدة جبهات:
1- لقد عرفوا أن النبع الأساسي الذي يزود الإنسان المسلم بالأخلاق الإسلامية العظيمة، إنما هو الإيمان بالله واليوم الآخر، فصمموا على أن يكسروا مجاري هذا النبع العظيم، ويسدوا عيونه، ويقطعوا شرايينه.
2- وعرفوا أن تفهم مصادر الشريعة الإسلامية تفهمًا سليمًا هو الذي يمدُّ نبع الإيمان بما يتطلبه من معارف، فمكروا بالعلوم الإسلامية، وبالدراسات المتعلقة بها مكرًا بالغًا، وذلك ما بين حجب لها تارة، وتلاعب بمفاهيمها أخرى، وتشويه لها أو جحود ومضايقة لروادها ومبلغيها، كلُّ ذلك في حرب مستمرة لا تعرف كللًا ولا مللًا.
3- وعرفوا قيمة الإفساد العملي التطبيقي، فوجهوا جنودهم لغمس أبناء المسلمين في بيئات مشحونة بالانحلال الخلقي، بغية إصابتهم بالرذائل الخلقية عن طريق العدوى، وسراية الفساد بقوة تأثير البيئة، واستمراء الشهوات المرتبطة برذائل الأخلاق.
4- وعرفوا قيمة إفساد المفاهيم والأفكار، فجندوا جيوش المضللين الفكريين، الذين يحملون إلى أبناء المسلمين الأفكار والمفاهيم والفلسفات الباطلة، ضمن واردات المعارف المادية الصحيحة، ذات المنجزات الحضارية المدهشة، وعن طريق هذا الغزو الفكري الخطير يدخلون السم في الدسم.
من أقوال أعداء الإسلام والمسلمين:
1- جاء في خطاب... (صموئيل زويمر) رئيس إرسالية التبشير في البحرين منذ أوائل القرن العشرين الميلادي، الذي خطبه في مؤتمر القدس التبشيري، الذي انعقد برئاسته سنة (1953م) ما يلي:
... ولكن مهمة التبشير التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هداية لهم وتكريمًا، وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام، ليصبح مخلوقًا لا صلة له بالله، وبالتالي فلا صلاة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية، وهذا ما قمتم به خلال الأعوام المائة السالفة خير قيام، وهذا ما أهنئكم عليه وتهنئكم دول المسيحية والمسيحيون جميعًا كل التهنئة...!!
2- وجاء في نشرة المشرق الأعظم الماسوني الفرنسي لسنة (1923م) ما يلي:
... وبغية التفريق بين الفرد وأسرته عليكم أن تنتزعوا الأخلاق من أسسها، لأن النفوس تميل إلى قطع روابط الأسرة والاقتراب من الأمور المحرمة، لأنها تفضل الثرثرة في المقاهي على القيام بتبعات الأسرة...
3- وجاء في البروتوكول الثاني من المقررات اليهودية السرية ما يلي:
... إن الطبقات المتعلمة ستختال زهوًا أمام أنفسها بعلمها، وستأخذ جزافًا في مزاولة المعرفة التي حصلتها من العلم الذي قدمه إليها وكلاؤنا، رغبة في تربية عقولهم حسب الاتجاه الذي توخيناه.
ولا تتصوروا أن كلماتنا جوفاء، ولاحظوا هنا أن نجاح (دارون) و(ماركس) و(نيتشه) والأثر غير الأخلاقي لاتجاه هذه العلوم في الفكر الأممي -أي عند غير اليهود- سيكون واضحًا لنا على التأكيد!!
4- وجاء في البيان الشيوعي الذي أصدره معلم الشيوعية الأول اليهودي (كارل ماركس) ورفيقه (انجلز) ما يلي:
إن القوانين والقواعد الأخلاقية والأديان أوهام بورجوازية تتستر خلفها مصالح بورجوازية!!) .
(أما طريقة دهاة التضليل لهدم الأبنية الأخلاقية فهي تتلخص بما يلي:
1- أن يقنعوا الأجيال بأن الأخلاق نسبية اعتبارية لا ثبات لها، وليس لها حقائق ثابتة في ذاتها، فهي خاضعة للتبدل والتغير.
2- أن يستغلوا بخبث بعض النظريات الفلسفية التي من شأنها تقليل قيمة الأخلاق في نفوس الناس، إذ تقيمها على أسس واهنة ضعيفة، أو على شفا جرف هار!! ومتى قامت في نفوس الناس على مثل ذلك تداعت الأبنية الأخلاقية التقليدية، ثم انهارت، وحلت محلها أنانيات فوضوية، تعتمد على القوة والحيلة، والإباحية المطلقة لكلِّ شيء مستطاع، فلا خير إلا ما تدعمه القوة، ولا شر إلا ما تضعف القوة عن تحقيقه.
3- أن يلفقوا من عند أنفسهم نظريات فلسفية يخدعون بها الناس، لاسيما الناشئون منهم، ويستغلون فيهم رغبات المراهقة بالتمرد على الحقِّ والواجب، تطلعًا لمجد موهوم، وقد تطول فترة المراهقة عند بعض الناشئين، حتى تكتسح عمر الشباب منهم، وجزءًا من عمر الكهولة، وسبب ذلك الاستسلام التام لعواطف طور المراهقة، ووجود المغذيات الشيطانية الخبيثة، وضعف التربية الإسلامية أو انعدامها. ومتى وجدت هذه الظروف المواتية لنمو الشر، فليس من البعيد أن يصير الإنسان شيخًا في سنه وجسمه ويبقى مراهقًا في عقله ونفسه.
4- اتخاذ الوسائل العملية التطبيقية لإفساد أخلاق الأمم، وأهمها الغمس في بيئات موبوءة بالأخلاق الفاسدة، حتى تكون الانحرافات عادات مستطابات)
ادعاء نسبية الأخلاق
يعمل الملاحدة والماديون وأذنابهم في خطط خبيثة ماكرة على هدم صرح الأخلاق، من خلال دعوى أنَّ الأخلاق أمور اعتبارية نسبية لا ثبات لها، تختلف من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، ومن أمة إلى أمة. فالذي يعتبر منافيًا للأخلاق عند شعب من الشعوب، لا يعتبر منافيًا للأخلاق عند شعب آخر، وبعض ما كان مستنكرًا فيما مضى قد يعتبر مستحسنًا في عصر آخر، فالأخلاق عند هؤلاء مفاهيم اعتبارية تتواضع عليها الأمم والشعوب، وليس لها ثبات في حقيقتها.
(وإنَّ أسباب الغلط أو المغالطة عند أصحاب فكرة نسبية الأخلاق، ترجع إلى ثلاثة:
الأول: تعميمهم اسم الأخلاق على أنواع كثيرة من السلوك الإنساني، فلم يميزوا الظواهر الخلقية، عن الظواهر الجمالية والأدبية، وعن العادات والتقاليد الاجتماعية، وعن التعاليم والأحكام المدنية أو الدينية البحتة، فحشروا مفردات كل هذه الأمور تحت عنوان الأخلاق، فأفضى ذلك بهم إلى الخطأ الأكبر، وهو حكمهم على الأخلاق بأنها أمور اعتبارية نسبية.
الثاني: أنهم جعلوا مفاهيم الناس عن الأخلاق مصدرًا يرجع إليه في الحكم الأخلاقي، مع أنَّ في كثير من هذه المفاهيم أخطاء فادحة، وفسادًا كبيرًا، يرجع إلى تحكم الأهواء والشهوات والعادات والتقاليد فيها، ويرجع أيضًا إلى أمور أخرى غير ذلك، والتحري العلمي يطلب من الباحثين أن يتتبعوا جوهر الحقيقة، حيث توجد الحقيقة، لا أن يحكموا عليها من خلال وجهة نظر الناس إليها، فكل الحقائق عرضة لأن يثبتها مثبتون، وينكرها منكرون، ويتشكك بها متشككون، ويتلاعب فيها متلاعبون، ومع ذلك تبقى على ثباتها، لا تؤثر عليها آراء الناس فيها.
الثالث: اعتمادهم على أفكارهم وضمائرهم فقط، وجعلها المقياس الوحيد الذي تقاس به الأخلاق.
أما مفاهيم الإسلام فإنها... قد ميزت الأخلاق عما سواها، وميزت السلوك الأخلاقي عن سائر أنواع السلوك الإنساني، فلم تعمم تعميمًا فاسدًا، ولم تدخل في مفردات الأخلاق ما ليس منها، وهي أيضًا لم تعتمد على مفاهيم الناس المختلفة، ولم تتخذها مصدرًا يرجع إليه في الحكم الأخلاقي، وأما العقل والضمير فإنها لم تهملهما وإنما قرنتهما بعاصم يردهما إلى الصواب كلما أخطأ سبيل الحق والهداية والرشاد، وهذا العاصم هو الوحي الذي نزل بدين الله لعباده، وشرائعه لخلقه، وتعاليمه التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؛ لأنهَّا تنزيل من عزيز حكيم، وقد بلغها رسله. أما صورتها المثلى المحفوظة من التغيير فهي ما ثبت في نصوص الشريعة الإسلامية، المنزلة على رسول الله محمد صلوات الله وسلاماته عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
فمن تبصَّر بالأصول العامة للأخلاق في المفاهيم الإسلامية، وتبصر بأنَّ الأخلاق الإسلامية مقترنة بالوصايا والأوامر والنواهي الربانية، وتبصر بأنَّ هذه الوصايا والأوامر والنواهي محفوفة بقانون الجزاء الإلهي بالثواب العقاب، فإنَّه لابد أن يظهر له بجلاء أنَّ الأخلاق الإسلامية هي حقائق في ذاتها، وهي ثابتة مادام نظام الكون ونظام الحياة ونظام الخير والشر أمورًا مستمرة ثابتة، وهي ضمن المفاهيم الإسلامية الصحيحة غير قابلة للتغير ولا للتبدل من شعب إلى شعب، ولا من زمان إلى زمان.
أما الأمة الإسلامية فهي أمة واحدة، وهي لا تتواضع فيما بينها على مفاهيم تخالف المفاهيم التي بينها الإسلام، والتي أوضحها في شرائعه ووصاياه.
وإذا رجعنا إلى مفردات الأخلاق الإسلامية وجدنا أنَّ كلَّ واحدة منها -ضمن شروطها وقيودها وضوابطها- ذات حقيقة ثابتة، وهي غير قابلة في المنطق السليم للتحول من حسن إلى قبيح، أو من قبيح إلى حسن. إنَّ حسنها حسن في كلِّ زمان، وقبيحها قبيح في كلِّ زمان، ولا يؤثر على حقيقتها أن تتواضع بعض الأمم على تقبيح الحسن منها، أو تحسين القبيح، تأثرًا بالأهواء، أو بالشهوات، أو بالتقاليد العمياء.
إنَّ الإسلام يقرر أنَّ حبَّ الحقِّ وكراهية الباطل فضيلة خلقية، ويقرر أنَّ كراهية الحقِّ وحبَّ الباطل رذيلة خلقية، فهل يشكُّ أحد سويٌّ عاقل في أنَّ هذه الحقيقة حقيقة ثابتة غير قابلة للتحول ولا للتغير، وإن تواضع على خلافها جماعة ذات أهواء؟! وهكذا سائر الأمثلة الأخلاقية الإسلامية
الخاتمة :-
إن النظام الأخلاقي في الإسلام يعتمد اعتماداً كلياً على تصور الإسلام للكون والوجود ، ويعتمد هذا التصور على الإنسان كجزء من هذا الوجود . فالغاية البعيدة من مجهودات الإنسان ومساعيه في الدنيا هي ابتغاء رضاء الله سبحانه وتعالى القائل: ) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ( . ويقول المصطفى r : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) . وتتجسد العدالة في الإسلام من خلال مبدأ المساواة ، فالناس جميعاً سواسية كأسنان المشط ، وإن مقياس التفاضل مرهون بمقدار التزامهم بأوامر الخالق التي تمثل الخصائص الرفيعة لمكارم الأخلاق . فلا اعتبار في تقويم الإنسان للونه أو لغته أو ***ه أو بلده أو حالته الاجتماعية
أو الاقتصادية أو السياسية
ومن أهم الأسس التي تقوم عليها الأخلاق في الإسلام هي :
الأساس الإعتقادي :
ويقوم على ثلاثة أركان : الإيمان بوجود الله ، والإيمان بأن الحق عز شأنه خلق الإنسان ، وعرفه بنفسه وبين له طريق الخير وطريق الشر من خلال الرسل عليهم الصلاة والسلام ، والإيمان بالحياة الأخرى وبأنه يحاسب فيها على ما قدم من خير أو شر . والإيمان أساس مهم من أسس الأخلاق ، وهناك ارتباط وثيق بين الإيمان وبين السلوك الأخلاقي .
الأساس الواقعي العلمي :
أما بالنسبة للأساس الواقعي، فالأخلاق تحافظ على حياة الفرد ، وتجعلها مستمرة دون مواجهة عثرات . والأخلاق لا تتعارض مع الطبيعة ولا تنافيها بل تتناسق وتتكامل معها، والقوانين الأخلاقية واقعية ثابتة مستمرة كقوانين الطبيعة .
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن الإسلام وضع للإنسان إطاراً أخلاقياً على ضوء معرفته بالطبيعة الإنسانية ، وأنها مكونة من روح ومادة ، وأن حياة الإنسان السعيدة لا تتحقق إلا بتلبية حاجاته المادية والروحية على حد سواء ، حتى لا يكون أسيراً للمادة ولنوازع الطبيعة البشرية .
الالتزام :
يعتبر الالتزام من أهم الأسس التي يقوم عليها النظام الأخلاقي في الإسلام ، والالتزام معناه التعهد من الإنسان في مواجهة البشرية كلها ، وذلك بناء على كون الإنسان مكلفاً في هذه الحياة ، وله أمانة ورسالة ، وله حرية الإرادة التي تحكم عمله ، وتكون مناط الجزاء ، لذا كان الالتزام الأخلاقي أبرز معالم المسئولية الفردية .
د) المسئولية :
لا يمكن أن يكون المرء صاحب خلق فاضل ما لم يتكون عنده شعور بالمسئولية ، لذا كان الشعور بالمسئولية الأخلاقية أساساً من أسس الأخلاق
ولا شك أن الشريعة الإسلامية دعمت التزام الأفراد بالمبادئ الأخلاقية التي حددها الإسلام من خلال تقريرها لمجموعة من الزواجر والعقوبات الأخروية والدنيوية لمن يخرج عن هذه المبادئ .